تابع الفصل الثاني

من كتاب الشخصية

للكاتب عبد الله خمّار

 

3- مكبث والطموح المدمر :

رأى شسكبير أن اكثر أسباب الفتن والحروب في عصره وفي كل عصر هو الطموح السياسي، فالطموح حين لا تحده الأخلاق، يتسبب في سفك الدماء وخراب المدن، فكتب مسرحية مكبث المستوحاة من تاريخ اسكتلنده وهي قصة قائد حوله طموحه إلى آلة فتاكة للقتل وسفك الدماء، وجعله يسقط شيئا فشيئا من النبل إلى النذالة. فالكاتب يحذر من الطموح غير المشروع، حيث تبرر فيه الغاية الوسيلة، ومهما كانت الغاية شريفة لا يمكن أن يبررها الغدر والقتل وسفك الدماء.

        لقد عرفنا دافع مكبث، فما غايته؟ وما الوسائل التي استعملها للوصول إلى هذه الغاية؟ لنتابع بناء شخصية مكبث.

مخطط بناء شخصية مكبث:

لنفرض أن الكاتب وضعه كما يأتي:

1- الفكرة المستهدفة من خلق شخصية مكبث هي التحذير من الطموح السياسي غير المشروع المدمر للفرد والأمم.

2-  الشخصية المطلوب بناؤها إذن هي شخصية سلبية يجب التركيز فيها على إبراز العواقب التي تنجم عن الطموح السياسي اللاشرعي من إراقة للدماء وتدمير للبناء وإزهاق للأرواح وكذب وغش و تآمر للاحتفاظ بالمكتسبات غير الشرعية.

3-  عرض مقومات الشخصية في مشاهد استهلالية تظهر نمو بذرة الطموح عند مكبث كما تظهر فضائله الأخرى.

4-  إبراز تأثير ليدي مكبث على زوجها، وانتزاع طيبته من قلبه وتحريضه على القتل في سبيل تحقيق طموحه.

5-  الغاية: الملك وهي غاية نبيلة.

6-  الدافع: الطموح "غير المشروع" لأن مكبث لا يحق له الملك.

7-  الوسيلة: دنيئة وهي قتل الملك ومحاولة استئصال العائلة الملكية كلها.

8-  إيراد نصوص أخرى تظهر استمراره في إراقة الدماء للاحتفاظ بالملك.

9-  نهاية مكبث المأساوية.

10-  تحريك عواطف القارئ وجعله ينفر من تصرفات مكبث وزوجته من خلال الوصف وسرد الأحداث.

 

 

ملاحظة هامة حول بناء الشخصية في المسرحية :

لا يتوسع كاتب المسرحية في إظهار مقومات شخصيته في النص الاستهلالي، وإنما يقدم أبرزها وما هو ضروري وأساسي لفهم المسرحية، وماله صلة وثيقة بموضوعها وأحداثها، لأن الوقت لا يتسع له أن يعرض المقومات كلها من خلال الحوار وحده.

مكبث القوي الشجاع:

لقد حارب مكبث ضد ملك النرويج وضد الخونة أعداء ملك اسكتلندة بشجاعة كبيرة وقوة فائقة وانتصر عليهم وكان شريكه في هذا الانتصار القائد الشجاع بانكو، وقد اجتزأنا من المشهد الثاني في الفصل الأول ما يظهر لنا شجاعة مكبث وقوته الخارقة وفيه نجد الملك دنكن ملك اسكتلنده وابنيه مالكولم ودونالبين والنبيل لينوكس يسألون ضابطا جريحا عن أنباء المعركة، ويحدثهم عن شجاعة مكبث:

  دنكن: ماذاك الرجل المضرج بالدم؟ بوسعه اخبارنا، كما يبدو من سوء حاله، بأحدث مراحل العصيان.   

مالكولم: هذا هو الضابط الذي قاوم الأسر، كما هو قمين بالجندي الباسل الصلب، مرحبا بالصديق الشجاع، أدل للملك بما تعرفه عن المعمعة كما كانت حين تركتها.

الرائد :  لقد ظلت بين بين: كسباحين ماهرين يتشبث كلاهما بالآخر فيخنقان بعضهما، والجائر مكدونالد وما أجدره بالتمرد، إذ لتلك الغاية راحت نذالات الطبيعة المتكاثرة تنغل عليه "من جزر الغرب يأتيه مدد من المشاة والخيالة، وربة الحظ ابتسمت لعصيانه اللعين وبانت كبغي تهوى متمردا. ولكن ضعفه ظل باديا، لأن مكبث الجرئ" وما أحقه بهذا النعت "يزدري بربة الحظ، وبسيفه المسلول الذي يبخر الدم منه لكثرة ما ضرب، يشق طريقه، وهو للشجاعة حبيبها، حتى يجابه العبد. ولم يصافحه أو يودعه حتى قده قدا من السرة إلى الشدقين، وغرز رأسه على شرفات قلعتنا                                مكبث متبوع بالعاصفة.ص 7

وهكذا بدأ شكسبير بناء شخصية مكبث بإظهار قوته وشجاعته وقدرته على سفك الدماء وإن كان ذلك في خدمة الملك الشرعي.

نبوءة الساحرات : ويعود مكبث قائد ملك اسكوتلندا وابن عمه والملقب أمير غلامس مع زميله القائد بانكو منتصرين في المعركة ضد ملك النرويج ويريان في الطريق ثلاث ساحرات يسلمن عليهما سلاما فيه نبوءة لمكبث:

        ساحرة 1 : سلاما يا مكبث، سلاما يا أمير غلامس

        ساحرة 2 : سلاما يا مكبث، سلاما يا أمير كودور

        ساحرة 3 : سلاما يا مكبث، يا ملكا فيما بعد

ويطلب بانكو بنوءتهن أيضا فيقلن له:

ساحرة 1 : أقل شأنا من مكبث وأعظم .

        ساحرة 2 : أقل منه سعادة، ولكن أسعد بكثير .

        ساحرة 3 : ستلد الملوك، وإن يفتك أنت الملك.

وهكذا كانت نبوءة الساحرات أن يصبح "مكبث" أمير كودور ثم ملكا أما "بانكو" فلن يكون ملكا ولكن الملوك سيكونون من نسله.

ويعجب مكبث لأنه الآن أمير غلامس، ولكن أمير كودور حي يرزق فكيف يبشر بهذا اللقب، وبعد اختفاء الساحرات يأتي رسول من الملك ليبشره بأنه أصبح أمير كودور، لأن الأمير الحالي خان الملك وتعاون مع الأعداء الزويجيين، وتبدأ بذرة الشر التي بذرتها الساحرات في نفس مكبث بالنمو.

        ولقد تحققت النبوءة الأولى فماذا عن الثانية و هي الملك؟

ويرسل رسالة إلى زوجته بما حدث، فتعاهد نفسها على تحقيق هذه النبوءة، وأن تدخل في قلب زوجها بعض القسوة اللازمة من أجل تحقيق ذلك.

ليدي مكبث "بعد قراءة الرسالة:

             أمير غلامس أنت، وكودر، ولسوف تكون.

             ما وعدت به، ولكنني أخشى طبعك.

              إنه أملأ مما ينبغي بحليب الإنسانية.

                فلا يتشبث بأدنى الطرق، أنت تريد العظمة،

              ولست خاليا من الطموح، ولكنك خال.

             من الشر الذي لا بد أن يصبحه. ما تريده شامخا،

             ولكن لا تريد أن تكسب عن غير حق.

     تريد يا غلامس العظيم ذاك الذي.

     يصرخ بك أن "افعل كذا" إن أردته،

     لا الذي تتمنى لو أنه لا يفعل، أسرع إلي.

     فأصب حيويتي في أذنك.

     وأطرد بجرأة لساني.

     كل ما يعوقك عن المستدير الذهبي "التاج".

     الذي يبدو وأن القدر والعون الخارق.

     كليهما قد توجاك به .     

صفات مكبث في هذا النص :

        إن زوجته ليدي مكبث تعرفه حق المعرفة، تعرف أنه طموح، ولكنه طيب وليس لديه من الشر ما يجعله يحقق طموحه. يريد التاج و لكنه يريده دون غش. هذا لا يمكن أن يكون، لذلك تتعهد زوجته على فعل كل ما بوسعها لتشجيعه على الوصول إلى العرش بأي طريقة.

        وتأتي الفرصة حين يزور الملك "دنكن" قصر مكبث، ويستضيفه مع زوجته لليلة واحدة ولكن زوجته تحثه على قتل الملك في هذه اللية ليتولى العرش، ويتردد مكبث  ولكنها تلومه وتعتبر أن التراجع عن  تحقيق طموحه جبن.

        ونلاحظ في هذا المشهد قسوة ليدي مكبث وتأثيرها الكبير على زوجها مكبث:

 ليدي ماكبث:  أمخمورا كان ذاك الأمل الذي.

ألبسته نفسك؟ وهل غرق في النوم بعد ذلك؟

وهل استيقظ الآن مخطوف اللون شاحبا.

لماذا قد فعل بملء حريته؟ من الآن فصاعدا.

هكذا سأعتبر حبك، هل يخيفك.

 أن تكون في فعلك وشجاعتك  

ما أنت في التمني؟ أتشتهي أن تنال.

ذاك الذي تعتبره زينة الحياة.

وتحيا جبانا في اعتبار نفسك.

جاعلا "لا أجرؤ" تتبع "يا ليتني"

كالقطة المسكينة في المثل الشائع.

مكبث :  أرجوك كفى.

        إني أجرؤ على أي فعل يليق برجل.

        ومن يجرؤ أكثر مني فهو ليس برجل.

ليدي مكبث: أي وحش إذن كان.

             ذاك الذي جعلك تعلمني بهذه المغامرة؟

     عندما جرأت على ذلك، كنت حقا رجلا.

وتقنعه ليدي مكبث بخطتها في تقديم الخمر لحارسيه ليسكرا وعند ئد يقتلان الملك ويلطخان بالدم حارسيه المخمورين:

مكبث:  لا تلدي إلا الذكور من الأولاد

لأن معدنك الجسور يجب ألا يصنع.

شيئا إلا الرجال… لن يصدق الجميع.

عندما نلطخ بالدم مرافقيه المأخوذين بالنوم.

في حجرته، ونستعمل خنجريهما.

أنهما هما الفاعلان؟

ليدي مكبث: ومن يجرأ على تصديق أي شيء آخر

             عندما نجأر بالحزن والفجيعة.

             على موته؟

 مكبث: لقد صممت، ولسوف أشد.

        كل عضو في الجسد لهذه الفعلة الرهيبة.

هيا، واخدعي الزمان بأجمل المظاهر:

على الوجه الكذوب أن يخفي ما يعلم القلب الكذوب.

إنه مبدأ الغاية تبرر الوسيلة هنا، فالغاية نبيلة والوسيلة إليها دنيئة. والشريف لا يقبل الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسيلة الدنيئة. حقا إن المظاهر خداعة، فقد استسلم الملك للنوم في قصر قائده ومضيفه وابن عمه، ونفذ مكبث الخطة بحذا فيرها، وحينما اكتشف موت الملك في الصباح تظاهر بالغضب وقتل الحارسين، وبدأ طوفان الدم في هذه الرواية الدموية يجري في سبيل طموح رجل وامرأة. وقد أعانته زوجته في الانتصار على صراعه الداخلي والتغلب على طيبته وبذور الخير فيه. ويتابع سلسلة القتل فيقتل بانكو زميله القائد حسدا من أن يكون الملك في نسله كما تنبأت الساحرات، ثم يحاول قتل ابن الملك دونالبين وابنه فيقتل الأول وينجو الابن  ثم يحاول قتل النبيل مكدف بعد تحذير الساحرات له منه، فيهرب مكدف ويقتل مكبث زوجته وأطفاله، ولكن هذا الدم الذي يجري يسبب لمكبث  وزوجته هوسا وعذابا نفسيا، فهو يرى شبح القتيل بانكو دائما أمامه. وهي ترى يديها دائما ملطخة بالدم وتحاول أن تمسحهما، وتنتهي المسرحية بمأساة بطلها. التي نأمل أن يكتشفها القارئ بنفسه ولكننا أردنا أن نبين أن مقومات الشخصية في هذه المسرحية قد تغيرت بسبب الطموح السياسي المدمر، وبينما كان مكبث في بداية المسرحية يضع شجاعته وقوته في خدمة الملك الشرعي لأنه خير  وطيب، أصبح في ختامها إنسانا شريرا يسفك دماء الأبرياء ليحافظ على العرش. واختيار شكسبير لشخصية تاريخية ليس المقصود به الماضي، بل المقصود به الطموح المدمر الحاضر دائما في كل زمان وهو الذي يتسبب في الحروب والانقلابات والمؤامرات في شتى بقاع العالم. وهو من العوامل الرئيسية في تغير خط الشخصية.

تمرين :

1- هات أمثلة من التاريخ القديم والمعاصر عن ملوك وقادة أراقوا الدماء وزرعوا الخراب والدمار في كل مكان بسبب طموحهم وأطماعهم.

2-  ما المعايير التي يجب تطبيقها في كل المستويات حتى لا يصل إلى مراكز الإدارة والتوجيه والاقتصاد في الشركات والجمعيات والإدارات بعض المغامرين والطامعين عن طريق التآمر والدسيسة والخداع؟

لقراءة الجزء التالي من هذا الفصل انقر هنا: قواعد بناء الشخصية

لقراءة الجزء السابق من هذا الفصل انقر هنا: الشخصية الضائعة: الطيب صالح

 للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا: الشخصية